جنيف - 19 - 9 (كونا) -- "أداة هشة".. هكذا وصفت رئيسة الادعاء السابقة للمحكمة الجنائية الدولية كارلا ديل بونتي واقع القانون الدولي الذي يواجه في سبيل تطبيقه عقبات أكدت أنها "لا يمكن على الأرجح التغلب عليها" لعدة أسباب بينها "المصالح الخاصة" لدول بعينها.
ورغم ارتباط اسم القاضية والمحققة السويسرية ديل بونتي ب"قنص مجرمي الحرب" والمتورطين في الجريمة المنظمة ذات البعد الدولي وسبر اغوار اعقد التحقيقات الجنائية بحثا عن العدالة لكنها وصلت في نهاية مسيرتها المهنية الى خلاصة مفادها ان "العالم لم يصبح أفضل" حتى الآن على الأقل.
وهذه الخلاصة حللتها ديل بونتي في كتاب جديد لها بعنوان (لست بطلة.. كفاحي الطويل من اجل العدالة) صدر عن دار نشر (ويستند) ورصدت بين دفتيه ابرز محطات البحث عن العدالة والانتصاف لضحايا انتهاكات القانون الدولي والقانون الإنساني.
وتشرح المؤلفة البالغة من العمر 74 عاما على مدى صفحات الكتاب ال172 أسباب الإخفاقات التي مني بها العديد من قضايا محاسبة مرتكبي جرائم الحرب معتبرة ان عدم الانتصاف للضحايا حتى الآن هو "واقع كارثي" استنادا الى "ثغرات في محاسبة القتلة".
وترى ديل بونتي ان "القانون الدولي أداة هشة للغاية بسبب عدم مصادقة جميع الدول على قانون (روما الأساسي) الصادر في 17 يوليو 1998 والذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.
ورأت في هذا الصدد ان انشاء محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة عام 1993 كان "ولادة للعدالة الدولية" اذ دشنت عهدا جديدا "جعل محاكمة المتورطين في جرائم الحرب والأخرى ضد الإنسانية وإدانتهم "ممكنا حتى على أعلى المستويات".
وأشارت في هذا السياق الى ان "مثول سلوبودان ميلوسيفيتش كرئيس دولة سابق امام المحاكمة على جرائم الحرب التي ارتكبها هو سابقة تستوجب الإشادة مثلما أدين 90 متهما في محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة".
وأكدت ديل بونتي ان هذه المحكمة بدت خطوة تاريخية الى الامام "اذ مكنت من وضع حد للافلات من العقاب الذي فر منه قادة سياسيون في جميع أنحاء العالم لكننا ما زلنا نواجه عقبات".
وأوضحت ديل بونتي "ان هذه العقبات لا يمكن على الأرجح التغلب عليها مثل افتقار الأمم المتحدة إلى الحزم في التعامل مع جرائم الحرب والأخرى ضد الإنسانية بسبب حق النقض (فيتو) الذي تتمتع به الدول الدائمة العضوية في المجلس وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا بسبب الخوف من محاسبة مواطنين من رعايا تلك الدول امام العدالة الدولية".
ولفتت الى ان القانون الدولي موجود منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية ولكن لا يتم استخدامه لعدم وجود "الحافز الضروري" فضلا عن عقبة رئيسة تتمثل في "المصالح الخاصة" لهذا الطرف او ذاك لحساب آخرين ما جعل القوى العظمى تعوق كل تقدم ممكن لتحقيق العدالة الدولية منذ سنوات.
في الوقت ذاته أشارت الى محاولات الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان (1997 - 2006) لإصلاح هذا المسار لكنه فشل في المقام الأول بسبب مقاومة كل من واشنطن وموسكو تحديدا اذ اكد المسؤول الأممي السابق بالقول "لم يكن أي منهما يرغب في التخلي عن نفوذه".
وأكدت ديل بونتي ان هذا الاعتراف هو في واقع الأمر "الخلل الذي أدى الى الحالة الكارثية للقانون الدولي حتى يومنا هذا".
كما أعربت عن أسفها لأن محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة لم يتبعها انشاء محكمة حول جرائم الحرب في سوريا محذرة من ان عدم انشاء تلك المحكمة يمكن ان يمثل "انتصارا للافلات من العقاب".
وأشارت الى جرائم الحرب والأخرى ضد الإنسانية في سوريا التي يجب الا تتخطاها العدالة الدولية مثلما لم تمر مذبحة (سريبرينيتشا) في البوسنة والهرسك دون عقاب.
ورأت ديل بونتي ان القانون الدولي "في منطقة رمادية تقع بين القانون والسياسة" و"بين السيادة الوطنية والمسؤولية الدولية" ولكنها في الوقت ذاته شددت على أهمية "إظهار الخطوط الحمراء" لمن هم في السلطة كما من الأهمية أيضا وضع تلك الخطوط الحمراء على أساس قانوني.
كما حذرت من محاولات "تفكيك المحكمة الجنائية الدولية بخطوات خفية.. فالحكومات تمنع التحقيقات التي ترى انها غير مريحة او ترفض التعاون مع المحكمة او تقلص الأموال او تتدخل في اعداد قوائم المتهمين ليوضع محامو الضحايا امام جدار مطاطي".
ويمكن القول ان كتاب ديل بونتي موجه الى القارئ المهتم بمسار العدالة الدولية والقانون الدولي ويشرح الخبايا والدهاليز والخلفيات التاريخية التي تؤثر على مسارات الانتصاف للضحايا.
ورغم الكثير من العقبات التي رصدتها ديل بونتي في طريق العدالة والانتصاف للضحايا فإنها لم تتخل عن إصراراها ومبدئها في احقاق الحق مؤكدة "ان كفاحي من أجل العدالة لم ينته بعد فهو يبدأ من جديد كل يوم".
وتولت كارلا ديل بونتي كذلك منصب المدعي العام الاتحادي السويسري وسجلت نجاحا دوليا بضلوعها في تفكيك واحدة من كبريات الجريمة المنظمة (مافيا) ثم كانت من بين الشخصيات الرئيسية التي سعت بقوة لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في يوغوسلافيا السابقة.
كما تولت رئاسة المحكمة المعنية بجرائم الإبادة الجماعية في رواندا ثم اختيرت سفيرة لسويسرا في الأرجنتين لتتولى إثر ذلك عضوية لجنة الأمم المتحدة الخاصة للتحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في سوريا منذ عام 2011 التي استقالت منها بعد فترة وجيزة.
وسبق كتابها هذا ثلاثة كتب هي (بحثي عن مجرمي الحرب والبحث عن العدالة) و(كارلا ديل بونتي تتحدث) و(نيابة عن الضحايا: فشل الأمم المتحدة والسياسة الدولية في سوريا). (النهاية) ت ا / ط م ا