من عقاب القوبع

دمشق 20 -12 (كونا) -- فقد الشراكسة بسبب ويلات الحروب المستعمرة والمتواصلة كتابتهم التي من خلالها كان بامكانهم ان يسجلوا تاريخهم وافكارهم ومعتقداتهم الا ان الفن الشعبي متمثلا بالغناء والرقص اخذ على عاتقه دور سفر التاريخ وصار هو التاريخ بحد ذاته وبات كالتحفة الفنية الاثرية كلما زاد عمرها وقدمها زادت قيمتها الجمالية والمعنوية بما تحمله من روح الماضي العريق روح الاجداد.
ويتناول الرقص الشركسي الحياة الاجتماعية بكل جوانبها ففيه نرى الجانب الديني متمثلا بعبادة وتقديس الالهة المختلفة التي كان يؤمن بها الشراكسة وفيه نرى الشخصية الحربية للشركسي متمثلة بحركات الفروسية العنيفة وايماءاته في استخدامه للاسلحة المختلفة.
وفي هذا الرقص ايضا نشاهد الجانب الانساني للشركسي فهو يعجب ويحب ويعبر بكل احساسه ووجدانه عن ذلك باسلوب بسيط وصادق كما نرى تأثير الطبيعة على الانسان الشركسي فيقتبس الرقص من البحر والنسر والحصان وغيرها من مظاهر الطبيعة واخيرا نرى من خلاله صورا عن الحياة اليومية لاسلاف الشراكسة من حصاد وزراعة وحياكة وصيد.
وقال عضو الجمعية الشركسية في سوريا وسيم قات في تصريح لوكالة الانباء الكويتية (كونا) اليوم ان الرقص الشركسي امتاز عن كثير من رقصات الشعوب الاخرى حيث تناول جميع مظاهر حياة الانسان الشركسي وجوانبه الشخصية وفي رقصة (القافا) مثلا نرى الجانب الارستقراطي من هذه الشخصية ونلحظ الكبرياء وعزة النفس.
واضاف انه في رقصات اخرى كرقصة (الاسلامية) و(الزغالات) نرى العنفوان والقوة الجسدية وقوة التحمل فالشركسي كان دائم التنقل على جواده متمنطقا سلاحه الذي لا يفارقه متحفزا دائما للهجوم والدفاع.
وبين ان الرقصات الشركسية التي تشاهد وتمارس في الاعراس والمناسبات الى يومنا هذا سواء في (القفقاز) او في (المهجر) هي رقصات (قافا وزافاكؤ واسلامية وزغالات وتلباتشأس وودج) وهذه ليست كل الرقصات التي تمارس من قبل الشركس فهناك الكثير منها الذي صار منسيا او نادرا.
وشدد عضو الجمعية الشركسية على اهمية اعادة احياء تلك الرقصات المنسية ولكن من المهم ان نفهم مغزى وجوهر الرقصات التي حافظنا عليها الى يومنا هذا لكي لا يكون مصيرنا مشابها لتلك التي اضعناها.
وقال ان الرقصات التي تمارس الان تبدو للوهلة الاولى مستقلة بعضها عن بعض لكن عند امعان النظر فيها نشاهد ان تلك الرقصات بشكل عام لها محتوى وجوهر وجداني واحد.
واضاف قات انه ابتداء من (الزافاكؤ) او (القافا) وفي كل رقصة تالية نلاحظ تفاعلا متتابعا في العلاقة العاطفية المتبادلة بين الشاب والشابة المؤديين للرقصة.
وذكر انه تبعا لتلك العلاقة الوجدانية المتطورة تم تحديد تعاقب وتسلسل منطقي لتلك الرقصات الشركسية الشعبية في الدجاغو (حلبة الرقص) فالرقص يبدأ بالقافا او الزفاكؤ وتتبعه الاسلامية فالزغالات وينتهي الرقص بالودج.
وبين ان هذا التسلسل ليس عبثا او عشوائيا بل يراد به الاشارة الى التدرج المنطقي للعاطفة التي تتولد بين شاب وفتاة في الحياة العادية فعند اللقاء الاول بينهما يكون لتلك العاطفة شكل خجول واختباري وعندما تزداد معرفتهما ببعض تأخذ تلك العاطفة شكلا اخر وعندما يصلان الى قمة الوفاق تصل تلك العاطفة الى أوجها.
وحول خطوات تلك الرقصات الشركسية قال عضو الجمعية الشركسية ان الدجاغو الشركسي يبدأ برقصة القافا او الزفاكؤ وهما تسميتان مختلفتان لرقصة واحدة والقافا من اكثر الرقصات الشركسية انتشارا واقربها الى قلوب الشراكسة وتؤدى بوتيرة معتدلة وتميل للسرعة قليلا احيانا.
واضاف ان تلك الرقصة مبنية على خطوات بدائية كالمشي الطبيعي حيث يشاهد الشاب في القافا الفتاة لاول مرة فتسمى رقصة اللقاء الاول وقبل البدء بالرقص يدور الشاب والفتاة حول بعضهما البعض بحيث يكون كل منهما على يسار الاخر وهذه اشارة الى انه لا يحق لاحد بان يقاطع الشاب اثناء رقصه مع الفتاة فهي تحت حمايته وعهدته.
وذكر ان كل هذه الامور مجتمعة تدل على شرفه وكرامته وكبريائه وعزته لذلك كان لزاما على الشاب في الجاغو ضمن المكان الذي يقف فيه والذي يحمل كل تلك المعاني السامية ان يبدي كل ما لديه من جمال النفس والروح والجسد فهو يرقصه ضمن هذه البقعة المحددة يحدث الفتاة عن نفسه ومكانته ضمن قومه ومجتمعه ويريها الطريقة التي يسلكها وسط مجتمعه.
واضاف ان الامر كذلك بالنسبة للمكان الذي تحتله الفتاة في حلبة الرقص فهو ايضا يرمز لموقعها ضمن اهلها ومجتمعها وهي برقصها في حدود هذا الموقع تحدث الشاب عن نفسها وعن حياتها.
وقال ان كل واحد منهما يبدى للاخر ما لديه وبنفس الوقت يعير جل اهتمامه للاخر فالشاب لا يحيد عن عيني الفتاة بالمقابل الفتاة تبدي له الاهتمام ذاته الا انها بعكس الشاب لا تنظر الى عينيه بشكل مباشر من مبدأ التواضع والحياء.
وبين ان الاستعراض عن بعد يستمر لفترة زمنية معينة ينتقل بعدها الطرفان الى المرحلة الثانية وفيها يدعوان بعضهما لالقاء نظرة عن كثب على محيطهما وموقعهما في المجتمع.
وقال قات انه بعد ذلك تبدأ المرحلة الاهم وفيها يتبادل الشاب والفتاة المكان الذي يحتله كل منهما لمعرفة تصرف وسلوك شريكة المستقبل عندما تصبح في مجتمع زوجها وعلاقة الزوج باهل الزوجة ومجتمعها لذا يحرص الطرفان عند تبادل الامكنة على الظهور بمظهر لائق.
واضاف انه بعد ذلك التبادل يعود كل منهما الى مكانه ويستمر الحوار كما كان في الفترة الاولى وتنتهي تلك الرقصة الرائعة التي تتميز بتماسك العاطفة فيها على الرغم من غناها وعمقها وهي ميزة اساسية للشخصية الشركسية بشكل عام.
وذكر قات ان العتبة التالية في التدرج العاطفي بعد القافا هي (رقصة الاسلامية) تلك الرقصة الوجدانية الجميلة والشائعة بين الشراكسة والتي تؤدى بسرعة معتدلة بين الشاب والفتاة بعد ان كونا لديهما فكرة عن الاخر وتوصلا الى معرفة بعضهما البعض وذلك من خلال رقصة القافا.
وبين ان الشاب في رقصة الاسلامية يلاقي الفتاة بفرح وسعادة ويرافقها في الدائرة ولا يحدثها عن نفسه وعن ماهيته فالحوار الراقص ياخذ منحى اكثر جرأة فيحدثها عما يكنه لها من مشاعر واحاسيس مضيفا ان البنية الشكلية للاسلامية مبنية على الرقص في دائرة تكون كبيرة في البداية وتأخذ في التضييق تدريجيا الى ان يلتقي الراقصان في منتصف الدائرة ويبتعدان عن بعضهما ثانية لتعاد الكرة.
واوضح ان هذه الرقصة تسمى احيانا برقصة (النسر) او الرقصة الدائرية وجاءت فكرتها من الاسطورة الشركسية التي تقول ان شابا شاهد زوجين من النسور يحومان في غزل شاعري في دائرة كبيرة كانت تصغر تدريجيا ومنه استقى تلك الرقصة ليعبر لمحبوبته عن مشاعره.
وقال قات ان الرقصة التالية للاسلامية هي رقصة الزغالات المتداخلة مع رقصة اخرى قريبة منها تسمى (التلباتشأس) وتلك الرقصة منتشرة وسط الشراكسة شمال غرب القفقاز على وجه التحديد وتتميز بوتيرتها السريعة بل من اسرع رقصات القفقاز كله.
واضاف ان الشاب في رقصة (الزغالات) يشعر بانتعاش روحي فهو يبحث عن السبل والطرق للتعبير عما يجول في نفسه وذلك التنوع في اساليب التعبير نراه في تنوع الحركات والخطوات.
وذكر ان الزغالات التي يطلق عليها (رقصة الحب) تعتبر من اصعب الرقصات واعقدها من حيث التقنية والسرعة والجهد الذي يجب ان يبذله الراقص للقيام بتلك الحركات السريعة كاستخدام رؤوس الاصابع والوقوف عليها وطرق الارض بها.
وقال انه بعد ذلك يتعرف كل من الشاب والفتاة على بعضهما الآخر من خلال القافا ويعبران عن أحاسيسهما ومشاعرها من خلال الاسلامية ويبديان حبهما وهيامهما واعجابهما من خلال الزغالات والتلباتشأس وتأتي ذروة ذلك الهرم العاطفي لتتوج برقصة (الودج) التي تعبر عن الوفاق التام والتفاهم الكامل بينهما.
واضاف انه في كل الرقصات الشعبية الشركسية لا يسمح للشاب ولا بأي شكل من الاشكال لمس الفتاة ولو عن طريق الصدفة بل يعتبر من المعيب جدا فعل ذلك أو حتى لمس طرف ثوبها وكذلك يحرم عليه التكلم معها فالحديث هنا حديث الروح من خلال الجسد.
واوضح ان رقصة (الودج) هي الرقصة الوحيدة التي يسمح بها بمسك يد الفتاة والتحدث معها مباشرة وهي خاتمة جميلة تعبر عن الوفاق الذي يتوصل اليه كل من الشاب والفتاة بشكل حضاري بعد حوار ومحاكاة طويلة وكل ذلك ضمن الاعراف وتقاليد الشركسية الاصلية التي تنم عن ادب رقيق ونبل عميق.
وقال ان الرقص الشركسي يجب الا يفهم على انه وسيلة للترفيه والفرح وحسب بل رسالة تحمل في طياتها افضل القيم الجمالية والادبية والاخلاقية التي توصل اليها الشعب الشركسي عبر آلاف السنين ومن خلال العديد من الاجيال.(النهاية) ع م / م ج ز كونا201029 جمت ديس 10