A+ A-

أزمة أوكرانيا تتراوح بين أسباب استراتيجية واقتصادية وصراع على النفوذ والطاقة

من أديب السيد (تحليل اخباري) موسكو- 18 - 2 (كونا) -- يعود النزاع الحالي بين روسيا والغرب حول اوكرانيا إلى أسباب استراتيجية واقتصادية وصراع على النفوذ والاستحواذ على اسواق الطاقة وطرق امدادها في القارة الأوروبية.
وتؤمن روسيا ان اوكرانيا مثلها مثل بقية الدول التي كانت جزءا من الفضاء السوفياتي السابق تشكل منطقة نفوذ طبيعية لها ولا يجوز تحويلها الى مصدر لتهديد الامن الروسي سياسيا وعسكريا واستراتيجيا.
وتعارض موسكو من حيث المبدأ انضمام اوكرانيا وجورجيا الى حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتعتبر هذه الخطوة بمثابة "اعلان حرب" عليها استنادا الى ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن من شأن الصواريخ التي يمكن ان ينشرها الحلف في اوكرانيا ان تصيب اهدافها في اراضي بلاده خلال أربع دقائق فقط.
واستغلت موسكو حالة التوتر في منطقة الحدود مع اوكرانيا من اجل طرح مبادرة تدعو الى منح روسيا ضمانات امنية تتمحور حول الالتزام بعدم ضم اوكرانيا وجورجيا الى حلف الناتو وعدم نشر اسلحة فتاكة في الجوار الروسي وانسحاب هيكلية حلف الناتو العسكرية الى حدود عام 1997 اي سحب القوات والقواعد العسكرية من اراضي كافة الدول التي انضمت الى الحلف الغربي بعد ذلك التاريخ اضافة الى ضرورة التمسك بمبدأ الامن الموحد الذي نصت عليه الوثائق التي اقرتها منظمة الامن والتعاون في أوروبا.
وتتمسك موسكو بمبدأ عدم جواز ضمان الامن الذاتي على حساب امن الدول الاخرى فيما يؤكد حلف الناتو حق الدول ان تختار سبل ضمان امنها عن طريق اختيار التحالفات التي تريدها ويشدد الحلف الغربي على التمسك بسياسة الابواب المفتوحة.
وشكلت الاطاحة بالرئيس الاوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش في عام 2014 "نقطة لا عودة" في الصراع القائم بين روسيا والغرب على النفوذ في الفضاء السوفياتي السابق.
وأبدت الدوائر الغربية اهتماما بالغا بإبعاد اوكرانيا عن روسيا لأسباب استراتيجية اهمها الحيلولة دون امكانية العودة لبناء تحالف بين الشعوب السلوفينية التي تضم روسيا وبيلاروسيا واوكرانيا وثانيا من اجل استثمار الوضع الجغرافي لأوكرانيا وتحويلها الى قاعدة متقدمة في الجهود الرامية الى احتواء روسيا وردعها إذا اقتضت الضرورة.
وأظهرت الادارة الامريكية على وجه الخصوص توجها معلنا في تقديم الدعم للقوى السياسية في اوكرانيا على اختلافها وللقادة من امثال رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو التي قادت الثورة البرتقالية والرئيس السابق فيكتور يوشينكو واللذين تبنيا نهجا مواليا للغرب ومعاديا لروسيا تجلى في دعواتهما للانضمام الى حلف الناتو والاتحاد الاوروبي وتمهيد الطريق لتحقيق هذه الاهداف خاصة خلال فترة توليهما للسلطة في كييف في الفترة التي امتدت عمليا من 1995 حتى 2010 .
وتصاعدت حدة الصراع بين روسيا والغرب على النفوذ في اوكرانيا التي ترتبط بعلاقات تاريخية وثقافية وعرقية مع الروس بعد ان تدخلت واشنطن بقوة في فرض اعادة التصويت في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2004 والتي تفوق فيها الرئيس يانوكوفيتش على منافسه فيكتور يوشينكو الامر الذي ادى الى اندلاع مظاهرات واحتجاجات في العاصمة كييف.
وتدخل الغرب من اجل فرض جولة انتخابية ثالثة "غير دستورية" قلبت الاوراق وأدت الى فوز يوشينكو الموالي للغرب على حساب يانوكوفيتش الذي تمسك بنهج سياسي معتدل في التعامل مع موسكو.
ومنذ ذلك الوقت اتخذ الصراع بين موسكو والغرب اشكالا مفتوحة وأخرى خفية للسيطرة على اوكرانيا التي عانت وما تزال من اوضاع اقتصادية صعبة وترد في مستوى الحياة وهجرة غير مسبوقة للكوادر وتعالي النبرات الشوفينية والتعصب بين الجماعات القومية التي تعادي روسيا وتصاعد النزعة الرافضة للتدخل الغربي لدى السكان الناطقين بالروسية.
ورغم الجهود التي بذلتها الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة فإن القوى الموالية للغرب فشلت في الاحتفاظ بالسلطة في انتخابات عام 2010 التي جعلت من فيكتور يانوكوفيتش المعتدل رئيسا للبلاد.
وأدت الاطاحة بالرئيس يانوكوفيتش بالقوة في عام 2014 الى نشوب حرب اهلية وتقسيم البلاد عمليا حيث اعلن اقليما لوغانسك ودونيتسك الواقعان في شرق اوكرانيا انفصالا احادي الجانب وغير معترف به عن كييف.
كما قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم محققة بذلك حلما طالما راودها منذ تفكك الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي.
وتقف اوكرانيا حاليا امام خيارات صعبة تتمثل في الرضوخ لمطالب روسية تلقى تفهما لدى اغلبية العواصم الغربية بضرورة تنفيذ اتفاقية مينسك التي تم توقيعها في فبراير عام 2015 برعاية روسية - ألمانية - فرنسية والتي تقضي بمنح اقليمي دونيتسك ولوغانسك وضعا خاصا واجراء تعديلات دستورية والسماح باجراء انتخابات حرة هناك او محاولة حسم النزاع في شرق البلاد بالقوة ما سيؤدي حتما الى مواجهة غير محسوبة العواقب مع روسيا.
ويدرك المراقبون أن الغرب غير مستعد للدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا لعدة اسباب ابرزها عدم وجود تصور الى اي مدى سيصل مثل هذا النزاع في حال وقوعه وعدم القدرة على التحكم بمساره وعدم اللجوء الى استخدام اسلحة فتاكة خلاله.
ودفع التوتر الدائم بين روسيا وأوكرانيا ومحاولة كييف التحكم في استغلال طرق امدادات الغاز الروسي الى اوروبا موسكو الى البحث عن بدائل لامداد الغاز الى الغرب عن طريق تنفيذ مشاريع عملاقة مثل (سيل الشمال 1) و(سيل الشمال 2) الذي يمر عبر بحر البلطيق ويبلغ طوله 1200 كيلومتر وقدرته الانتاجية 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا.
وأدى تنفيذ هذه المشاريع الى فقدان اوكرانيا التي كانت دولة عبور للغاز الروسي لمعاول اقتصادية كانت تدر عليها مليارات الدولارات واخرى استراتيجية تتعلق بوضعها على حدود الاتحاد الاوروبي اضافة الى فقدان واحد من معاول الضغط السياسي على روسيا.
وهذه الاوضاع استغلتها الولايات المتحدة من اجل الضغط على الدول الغربية لوقف استيراد الغاز الروسي باعتبار ان موسكو تستخدم الطاقة "سلاحا استراتيجيا يعزز من تبعية الغرب لها" وكذلك لرغبة واشنطن في ان تجد مساحات لتسويق الغاز الأمريكي.
وتحول مشروع (سيل الشمال 2) الى ساحة للصراع بين موسكو وواشنطن التي قامت بشن حملة ضارية واسعة النطاق من اجل تعطيل هذا السيل الذي اكتمل انشاؤه منذ اكثر من عام الامر الذي ادى الى حدوث توتر سياسي بين واشنطن وبرلين التي تعتبر ان لها مصلحة استراتيجية في هذا السيل.
وفي ظل الضغوط التي يمارسها الغرب وخاصة واشنطن على روسيا وتقدم هيكلية حلف الناتو نحو الحدود الروسية وشعور الروس بأنهم باتوا محاصرين من كافة الجهات وتمكنهم في الوقت نفسه من بناء قدرات عسكرية هائلة وانتاج منظومات صاروخية غير مسبوقة لا مثيل لها واقامة تحالف متين مع الصين شعرت موسكو ان الوقت حان "لقرع طبول الحرب" من خلال مطالبة الغرب بمنحها ضمانات امنية قانونية خطية وملزمة فورية.
وتدعو موسكو كذلك الى بلورة التزامات اخرى تنص على التزام الاطراف المعنية بعدم اتخاذ اي اجراءات للاضرار بأمن اي منها وعدم استخدام اراضي الدول الاخرى لتحضير او تنفيذ هجوم عسكري وعدم انشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفياتية غير المنتمية الى الحلف الغربي وكذلك التزام الاطراف المعنية بالامتناع عن القيام بطلعات جوية للقاذفات الاستراتيجية المزودة بأسلحة نووية او غير نووية وكذلك منع وجود بواخر حربية من كافة الانواع خارج اطار الفضاء الوطني او المياه الاقليمية في اي مكان تستطيع منه اصابة اهداف في اراضي الدول الاخرى.
ولم تلب ردود واشنطن وحلف الناتو المطالب التي دعت لها روسيا وان وجدت موسكو في بعض منها نقاطا ايجابية مثل الاستعداد لمناقشة قضية الصواريخ متوسطة وقريبة المدى والتعاون في مجال السيبراني وضمان شفافية المناورات العسكرية.
وتتمسك موسكو على لسان الرئيس بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف بأن يكون الحوار حول هذه القضايا مرتبطا بشكل جذري بمعالجة المطالب الامنية الروسية الأساسية. (النهاية) ا س / ط م ا