A+ A-

حكاية برونكس .. نافذة على الوجه الخشن لاكبر واخطر ضواحي نيويورك خلال ستينات القرن الماضي

من احمد الفريج 

نيويورك - 19 - 7 (كونا) -- ما ان يرفع الستار وتبدأ اللوحة الافتتاحية لمسرحية (حكاية برونكس) الغنائية الاستعراضية والمقتبسة عن فيلم يحمل الاسم ذاته انتج في عام 1993 حتى يبدأ المشاهد بالدخول والغوص في أعماق الوجه الخشن لاكبر واخطر ضواحي مدينة نيويورك وهو (برونكس) في مطلع ستينيات القرن الماضي.
ففي تلك الفترة من الزمن شهدت (برونكس) العديد من الاحداث الدامية نظرا لتعدد الاعراق التي كانت تقطن المنطقة وتفشي العنصرية بين البيض والسود من جهة وبين أصحاب العرق والدم الإيطالي والاعراق الاخرى من جهة أخرى لتتحول الاحياء في تلك الضاحية الشهيرة الى ساحات صراع لبسط النفوذ وسيطرة العصابات ومعارك لتصفية الحسابات واموال يتم صرفها لجذب الولاءات وكلها مشاهد تجسدت بوضوح على خشبة المسرح في عمل استعراضي متقن صاحبته ايقاعات وموسيقى غنائية وتصويرية تحت تأثير الاضاءات والديكور.
وللوهلة الأولى من بدء المسرحية ينجذب المشاهد الى لوحة رائعة لعبت فيها الاضاءة دورا مؤثرا اذ تلقي توهجا احمر عبر مستويات متفاوتة غير مركزة جسدت نيران الحرائق في الشوارع والتي صممت باحترافية عالية جدا وعلى الرغم من تلك المشاهد التي تحدد طبيعة المكان كحي قوي الا ان هناك علامات واضحة وتفاصيل دقيقة ذات لمسات إنسانية كالعلم الايطالي والزهور التي تظهر من شرفات المنازل بالاضافة الى الاناقة الايطالية البسيطة التي ظهرت على أزياء الممثلين.
وخلال اكثر من ساعتين للعرض المسرحي تعبر المقاطع الايقاعية وتنوعها عن قصة الولاءات المتضاربة في (حكاية برونكس) التي يحكمها الفقر والحاجة حيث تقوم بسرد القصة مجاميع انيقة من الراقصين والراقصات تتميز بالجمال والبساطة وقوة التعبير في الأداء الحيوي في حين يتحرك الممثلون بحسب أدائهم وشخصياتهم وفق التزام محكم بالايقاع الحركي.
ان مكونات قصة الفداء الرائعة التي اشرف عليها طاقم مميز من المخرجين وهما روبرت دينيرو وجيري زاكس والحواس المتلهفة للتدرج الموسيقي المصحوب بكلمات جذابة يؤديها فريق ابداعي رائع من (جيرسي بويز) والرقص النشط على الموسيقى الجديدة المذهلة التي تجمع بين الواقعية والكمية المناسبة من الغموض والاسئلة الدائمة تنسجم جميعها في حدث مسرحي شيق يستحق المشاهدة.
ولا تخلو الشخصيات الملونة والمختلفة التي جسدها ممثلون بارزون بشكل متقن من لحظات هزلية تخفف من حدة الاحداث وتسارعها في حين اكتسبت الأزياء التي تحاكي اناقة ذلك العصر رونقا خاصا مقرونا بالاحداث مما اثار اهتمام المشاهد وفضوله في متابعة مصير كل شخصية وما يحدث لها فهناك لحظات حزينة وأخرى سعيدة تأسر العاطفة.
بالتأكيد فان (حكاية برونكس) لا تخلو من جوانبها المعاصرة او العاطفية والتي يتم استحضارها من خلال الموسيقى والكلمات التي عكست قصة حب شابها الكثير من التحديات العنصرية والعرقية وتحدي القيم والمبادئ و بين الدفء والقوة والحميمية التي تأتي من التنشئة الإيطالية في نيويورك وبين الإحساس بالكراهية والاستهجان والضعف وقلة الحيلة التي كان ينشأ عليها أصحاب البشرة السمراء آنذاك.
وتدور احدث المسرحية حول قصة صبي امريكي من اصل إيطالي خلال فترة الستينات من القرن الماضي يجمعه القدر بزعيم مافيا محلي ليواجه بعدها تمزقا خلال حياته بين اغراءات الجريمة المنظمة والقيم النزيهة لوالده المكافح والمجتهد.
يعيش لورنزو أنيلو وابنه كالوغيرو (9 سنوات) في (بلمونت) وهو حي إيطالي أمريكي في (برونكس) تقطنه غالبية من اصول ايطالية وترتفع فيه معدلات الجريمة والخلافات العنصرية ويشهد كالوغيرو جريمة قتل ارتكبها (سوني) زعيم احدى العصابات المحلية دفاعا عن احد أصدقائه في الحي الذي يقيم فيه.
واختار الصبي كالوغيرو التزام الصمت عند استجوابه من قبل المحققين وينكر تعرفه على الجاني في موقف حظى باعجاب زعيم العصابة المحلية الذي صادق فيما بعد الصبي وجعله مقربا منه ومن أصدقائه وحظي بامتيازات مالية كبيرة دون علم والده الذي طالما اجتهد في تربيته على المثابرة والكفاح والابتعاد عن رفاق السوء.
وفي وقت لاحق التقى كالوغيرو مع فتاة أمريكية من أصل أفريقي تدعى جين ويليامز واغرم بها على الرغم من ارتفاع مستوى التوتر العنصري والكراهية بين الأمريكيين الإيطاليين والأمريكيين من أصل أفريقي في علاقة جعلته يعاني من قبول محيطه المجتمعي والحفاظ على مشاعر عشيقته.
وحملت المسرحية رسائل واضحة المعالم وقدمت للجمهور في اطار درامي موسيقي من بينها ان السحر المرتبط بزعماء العصابات الايطالية لاسيما في تلك الفترة وما كانوا يتمتعون به من حظوة ومال ونفوذ وقوة تفوق القانون في احيان كثيرة ليست غاية او طموحا او رفاه مطلق وانما هي حياة خوف ومؤامرات وخيانة وعدم استقرار فمن الأفضل مكابدة مصاعب الحياة والعيش بامان وشرف والابتعاد عن حياة العنف والاجرام وهذا ما ادركه الصبي كالوغيرو لاحقا. كما حملت المسرحية العديد من المعاني الانسانية الأخرى المتمثلة في نبذ العنصرية والكراهية والتطرف والانحياز الى عرق او طائفة معينة وضرورة التعايش بسلام مع الجميع مهما كان لونه او عرقه او اصوله.
ولعل ابرز الرسائل التي تضمنها العرض المسرحي ايضا تكمن في القوة الجبارة التي يمكن ان يفرضها الحب الصادق ويتغلب بها على جميع مصاعب الحياة والتي انتصرت مؤخرا في مواجهة عواصف عاتية من العنصرية والعادات والتقاليد واختلاف الثقافات والمستوى المالي.
والمواضيع المتأصلة في (حكاية برونكس) لايمكن ان تكون اكثر أهمية من وقتنا الحالي مع ازدياد جرائم الكراهية والعنصرية في مختلف انحاء العالم فهي في صعود في المناطق الحضرية بالإضافة الى الزيادة المضطربة في خطاب الكراهية وقد اكدت المسرحية على حاجة المجتمع الامريكي على وجه الخصوص الى وقت للتأمل ونقد الذات واتخاذ خطوات عملية للمحافظة على اركانه كما اكدت ان مشاهد الجريمة المنظمة التي عكستها المسرحية هي حدث مثير للاهتمام ويجدر التصدي له قبل فوات الأوان. (النهاية) ا ص ف