الزرادشتية في ايران صورة ماثلة لحياة القدامى الروحية والمدنية من طاهر الموسوى طهران - 13 - 7 (كونا) -- تعتبر الزرادشتية في ايران اليوم اثرا حيا لتاريخ غابر وصورة ماتزال ماثلة لحياة الايرانيين القدامى الروحية والمدنية قبل ان تختار بلاد فارس هويتها الجديدة باعتناق الاسلام بعد عقود قليلة على ظهوره في الجزيرة العربية.
والدين الزرادشتي الذي يعرف في الادبيات الاسلامية "المجوسية" او عبادة النار يتركز اتباعه حاليا في كل من ايران والهند حيث يعتقد ان جماعات منهم اجبرها الاضطهاد الكسروي الى الهجرة الى الهند قبل ظهور الاسلام بفترة.
وتحتل النار التي تبقى موقدة في معابد الزرادشتيين طوال الوقت ويغذيها بالحطب رجال موكلون مرتين في اليوم موقعا محوريا في الدين الزرادشتي وينظر اليها على انها العنصر المقدس والشريان النابض بالحياة والمطهر من الرجس والظلمات.
وحين يدخل الشخص معبد الزرادشتيين في طهران المعروف باسم (اتشكده) اي محل النار تستوقفه لاول وهلة بساطة المكان وشبهه الواضح بالعمارة الاسلامية كما يلفت نظره المكانة الخاصة التي تحظى بها الغرفة التي تحتوي النار اذ يتعين على قاصدها ان يخلع نعليه وان يلبس غطاء ابيض خاص للراس قبل التوجه اليها والدعاء عندها.
ويمارس الزرادشتي طقوسه باستقبال النار التي تستقر في وعاء عريض ومرتفع من النحاس والنظر اليها عبر نافذة في جدار الغرفة التي تشتعل داخلها ثم يأخذ بتلاوة ادعية خاصة يبدو انها باللغة الفارسية القديمة او انها خاصة بالزرادشتيين دون غيرهم.
وقال عضو لجنة رجال الدين الزرادشتي كوروش نكنام لوكالة الانباء الكويتية (كونا) ان الزرادشتية ظهرت في ايران بوصفها دين ايران الرسمي بعد عقود على ميلاد زرادشت عام 1768 قبل ميلاد السيدالمسيح عليه السلام.
واضاف ان الزرادشتية "انحسرت بعد اعتناق الاغلبية الساحقة من الايرانيين للاسلام واقتصر وجودها على القرى واعالي الجبال حيث كان الزرادشتيون يمارسون طقوسهم الدينية باشعال النار وتقديسها".
واوضح نكنام الحائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الزرادشتية ان (الافستا) كتاب الزرادشتيين المقدس يضم تعاليم الديانة الزرادشتية من الادعية والصلاة والتعاليم الاخلاقية والاناشيد المنسوبة لزرادشت ويركز على ثلاثة مبادئ رئيسية في حياة الانسان هي الفكر الصائب والقول الحسن والعمل الصالح. واعتبر نكنام ان "جوهر الاديان واحد وهو تنمية الضمير لدى الانسان ودعوته للعمل الصالح وان الديانات الاسلامية والمسيحية والزرادشتية تشترك كلها في هدف التقرب الى الاله ومعرفته".
ويصف رجل الدين الزرادشتي الذي يستخدم مفردة "خدا" ومعناها "الاله" في الفارسية اناشيد زرادشت بانها "مليئة بالمعاني الدينية العميقة التي تؤكد كلها على ان الاله هو مصدر الخلق ومرجعه وهو النور الخالص الذي تسطع به حقيقة الوجود اللانهائي الكبرى".
ويحرص الزرادشدتيون على ايجاد صلة بين ديانتهم وعقيدة التوحيد فيذهبون الى ان الناس في ايران كانوا قبل ظهور الزرادشتية يعبدون الهين احدهما اله الخير المسمى "اهورا" وهو الاله الذي يدعوه الناس ليرزقهم بكل ماهو جميل ومحبوب في حياتهم والاخر اله الشر المسمى "ديف" الذي يقدم له الناس النذورات اتقاء لشره وخوفا من بطشه.
ويقول الموبد نكنام ان "زرادشت دعا الناس الى ترك الشرك والاتجاه الى عبادة رب واحد هو الاله الحكيم الكبيروحاول ان يربط مكانة النار ودلالاتها في الديانة الزرادشتية بالبعدين الديني والانساني معا بحيث تبدو حالة التقديس وكانها مزيج من التجربة التاريخية للبشر والرؤية الدينية الخالصة".
وعلى صعيد متصل اوضح رجل دين زرادشتي فضل عدم ذكر اسمه ذلك قائلا ان "الناس كانوا يحترمون النار حتى قبل ولادة زرادشت بسبب حاجتهم اليها وتعلمهم الاستفادة منها بعد ان كانوا يخافون منها كخشيتهم من الحيوانات المفترسة وفرارهم منها".
واضاف ان "الانسان البدائي الذي احتاج النار للتدفئة والتغلب على برد الشتاء القارس مثلما احتاجها للانارة واتقاء خطر الحيوانات الداهم ادرك اهميتها وضرورة بقائها مشتعلة حتى يمكن الاستفادة منها في كل حين فقاده ذلك الى حمايتها من الامطار والفيضانات والريح الشديدة ببناء الاسقف لها واختيار الاماكن المرتفعة لاضرامها وايكال العناية بها الى اشخاص معينين يرعونها ويمدونها باسباب الاشتعال".
ورأى نكنام ان "ذلك كان مقدمة لتقديس النار وبناء المعابد لها مشيرا الى ان الايرانيين القدامى كانوا يقدسون العناصر الاربعة وهي "التراب والماء والهواء والنار" لكن احتفاءهم بالنار كان اكثر نظرا لاحساسهم بالحاجة الشديدة اليها بسبب ندرتها وعدم وفرتها كغيرها من العناصر".
غير ان عالم الدين الزرادشتي لا يرضى بتجريد ديانته من بعدها الروحي وان تكون مجرد نتاج لتفاعل الانسان مع الطبيعة وتلطفه في قهرها حيث قال ان "زرادشت يرى ان الاله نور خالص وهو موجود حيثما وجد النور وبهذا اصبح النور هو قبلة الزرادشتي في دعائه وادائه لطقوسه الدينية".
واضاف "بما ان للنار نورها الدائم فمن الطبيعي ان تصبح قبلة للعباد من اتباع (اشو زرتوشت) كما يطلق على زرادشت".
وللمجتمع الزرادشتي مراسم تذكر بطقوس التعميد في المسيحية حين يكرس الصبي او الفتاة تابعا للديانة المسيحية ضمن مراسم خاصة.
فالزراشتي ذكرا كان او انثى يخير كما يقول نكنام لدى بلوغه الفترة مابين السابعة وحتى الخامسة عشرة من عمره بين ان يكون زرادشتيا او على دين اخر.
وفي حال اختار الفتى او الفتاة دين الاباء والاجداد تقام مراسم خاصة احتفاء بهذه المناسبة تسمى (سدرة بوشيدن) يغطى خلالها بدن الصبي بملابس قطنية بيضاء ويحاط وسطه بحزام من الصوف "دلالة على ماهو مستقر للخصال الانسانية العليا كالقلب والعقل المستودعين للعاطفة الانسانية والحكمة والفكر وتمييزه عما هو مشترك بين الانسان وسائر الحيوانات فالحزام هو في دلالته الرمزية الفاصل بين حدي الحيوانية والانسانية".
ويؤدي الزراشتي مجموعة من العبادات التي تمارس في معظم الديانات كالصلاة التي يؤديها خمس مرات في اليوم وتقتصر على تلاوة الادعية حيث تؤدى الاولى قبل طلوع الشمس والثانية بعد الشروق فيما تؤدى الصلاة الثالثة عند الظهيرة والرابعة بعد الظهر ويكون وقت الخامسة في الليل.
وكما في كثير من الاديان ياخذ الصيام مكانه في صورة العبادات الزرادشتية غير ان له في هذا الدين معنيين الاول هو اقرب للنصيحة الاخلاقية التي يترك الالتزام بها لتقدير الزرادشتي نفسه حيث تنص التعاليم الدينية على وجوب الامساك عن تناول كل مايضر الانسان بدنا اوروحا والثاني هو الامساك عن تناول اللحم اربعة ايام من كل شهر.
ويصف نكنام تعاليم زرادشت بانها "احكام كلية لاتتدخل في تفاصيل الحياة اليومية للزرادشتي بل يترك امر ذلك الى حكمة الشخص نفسه وما تقتضيه ظروف العصر وتطور الحياة".
ومع ذلك فان الزرادشتية تبيح لنفسها التدخل لتنظيم شؤون اتباعها الاجتماعية كالزواج وشؤون الاسرة والارث ولاتكتفي بمعالجة الجوانب الروحية والاخلاقية في حياة هؤلاء.
فالزواج عندهم له احكام خاصة يقترب بعضها مما لدى المسلمين كالاشهاد واشتراط رضا الزوجة لكنهم يتفردون بعدم وجود المهر وتحريم الزواج باكثر من واحدة والتضييق على انفصال الزوجين بحيث لايقع الطلاق الا نادرا.
اما الطلاق فهو نادر الحدوث في المجتمع الزرادشتي واذا قرر الزوجان الانفصال بعد ان تصبح الحياة الزوجية متعذرة على الطرفين يتعين على الزوج في هذه الحالة ان يدفع نصف امواله التي اكتسبها خلال حياته الزوجية الى زوجته وفي حال عجزه عن توفير المال المطلوب تتحمل اسرته وجمعيات خيرية انشئت لهذا الغرض جانبا من المبلغ.
ويشكل الدين الزراشتي بتقاليده واساطيره الدينية جزءا غير قليل من الذاكرة التاريخية للشعب الايراني التي ما تزال تحتفظ بانماط من المفردات المرتبطة بهذا الدين على نحو يعيد الى الاذهان مواضعات عاشها العرب في جاهليتهم واقرها الاسلام بعد ظهوره كالتقويم العربي واسماء الشهور والاحتفال بيوم الجمعة وغير ذلك .
فالزرادشتيون يحتفلون اليوم بمجموعة من الاعياد التي يشاركهم الاحتفال بها الايرانيون المسلمون ايضا بعد تجريدها من روحها الاولى ومنحها هوية جديدة تقوم على الثقافة الاسلامية كعيد النوروز الذي يحتفل به الايرانيون ومنهم الزرادشت في شهر مارس من كل عام احتفاء بتفتح الطبيعة وعيد (التشلة) الذي يحتفل فيه باطول ليلة من ليالي السنة وتصادف اخر ليلة من ليالي الخريف.
ويباشر التنظيم الاجتماعي والديني لاتباع الديانة الزرادشتية مجلس من رجال الدين يسمى جمعية (الموبدان) وتضم سبعة اعضاء يمثلون المرجعية الروحية ومهمتها النظر في الشؤون الدينية والثقافية والاجتماعية لاتباع الديانة وزرع التقاليد والقيم الزرادشتية في نفوس الابناء والاشراف على اصدار الكتب والمجلات والمنشورات الخاصة بالدين الزرادشتي.
ويعتبر الدين الزرادشتي احد الاديان الرسمية المعترف بها في ايران كال ديانات الاخرى كالمسيحية واليهوديةويمثل هذه الاقليات ومنها بالطبع الاقلية (الزرادشتيه) نواب في مجلس الشورى من ابناء هذه الطوائف ينتخبهم اتباع دياناتهم في كل دورة انتخابية لمجلس الشورى الايراني.(النهاية) ط ن / س ع م