A+ A-

ثربانتس .. 400 عام على رحيل رمز الأدب الإسباني

من هنادي وطفة

مدريد - 29 - 4 (كونا) -- يعد الكاتب المسرحي والروائي والشاعر الاسباني ميغيل دي ثربانتس سابيدرا مبدع "الفارس الدونكيشوتي" رمزا للأدب الاسباني وإحدى شخصيات الادب العالمي البارزة وأبا للرواية الأوروبية الحديثة وأشهر كتاب إسبانيا الخالدين.
وتحتفي إسبانيا هذا العام بمرور 400 عام على رحيل الكاتب في تكريم متأخر ولكنه مستحق للشخصية التي وهب اسمها للمراكز الثقافية التي يقصدها دارسو اللغة الإسبانية حول العالم والتي يكرم باسمها (جائزة ثربانتس للأدب) وهي أكبر جائزة أدبية في الدول المتحدثة بهذه اللغة.
ولا شك ان روايته (دون كيشوت) كما ترجمت عن الفرنسية أو (دون كيخوتي) كما تلفظ بالإسبانية هي أشهر أعمال ثربانتس التي تتجاوز حدود الزمان والمكان وتكشف عن ثراء اللحظة التي عاشها والإشكالات المرافقة في كل مرحلة والتي تمازجت فيها المرارة بالحب والمروءة بالبؤس وجاءت ثمرة تلاقح فريد بين ثقافتين إسلامية ومسيحية عملتا معا على تشكيل شخصيته وصقل ملامح هويته.
ويمكن للباحث فهم الانتاجات الأدبية لثربانتس وفك طلاسم شخصه وشخصياته المبتدعة وعلل نشوئها وتطورها عبر البحث في تأثيرات الثقافة الإسلامية في نفس الكاتب الذي لطالما كان للمسلمين والعرب نصيب في أعماله المختلفة.
وفي هذا السياق قال الكاتب والمترجم العراقي الدكتور محسن الرملي في لقاء خاص مع وكالة الانباء الكويتية (كونا) ان جميع أعمال ثربانتس التي كتبها بعد أسره في الجزائر تحمل آثارا للثقافة العربية أو الإسلامية ومن أبرزها روايته (دون كيخوتي) لأن فيها جزءا من تجربته مع العالم العربي وفيها آثار أدبية وتاريخية ودينية إلى جانب أخرى تتعلق بالفروسية.
وأوضح ان نظام الفروسية الذي اتبعه ثربانتس في الرواية عربي إسلامي حيث كان (كيخوتي) يدافع عن الفقراء والمساكين والارامل في حين ان نظام الفروسية الغربي كان يصاغ حول البلاط أو الكنسية ويكرس للدفاع عن الأغنياء والنبلاء والملك والامبراطور مشددا على ان بطل الرواية اتبع جميع شروط الفروسية العربية في جوهره وسلوكه ونظرياته.
وعلى صعيد استخدام اللغة العربية قال الرملي ان ثربانتس وظف كلمات عربية بحتة مثل (إن شاء الله) مع الإشارة إلى أصلها فضلا عن توظيفه بشكل واع كلمات أخرى عربية اندمجت باللغة الاسبانية في سياق التطور الطبيعي للغة موضحا ان الكاتب ذكر 37 اسما عربيا أو موريسكيا ووظف 220 كلمة عربية.
ولفت إلى ان أحد أهم تلك التأثيرات التي ما زالت نابضة حتى الآن والتي يرددها جميع متحدثي اللغة الاسبانية هو ما ذكره ثربانتس في الجزء الثاني من روايته الشهيرة عندما قال ان جميع الكلمات الاسبانية التي تبدأ ب(ال) في اللغة الاسبانية هي كلمات عربية رغم انها كما وضح الرملي نظرية غير دقيقة لغويا.
وحول التأثيرات الأدبية أشار الرملي إلى تلك التي تتعلق بالحب الرومانسي العربي وتمجيد مفهوم العدالة في الإسلام فهو لم يحمل على العرب رغم اسره سنوات طويلة مؤكدا في سياق متصل أنه لم ينتقد قط العقيدة الإسلامية وفلسفتها بل انتقد أشخاصا مسلمين ومسيحيين ومن مختلف الأديان والقوميات.
وولد ثربانتس في عام 1547 وسط عائلة متواضعة في مدينة (الكلا دي هينارس) بمحافظة (مدريد) وكان والده يعمل جراحا وحلاقا ما دفع العائلة للسفر المتواصل في أرجاء البلاد بحثا عن ظروف معيشية أفضل.
وعاش ثربانتس وهو من أصل قرطبي وابن مسيحيين جدد محاطا طوال حياته بالثقافة الإسلامية والعربية بحكم الظرف التاريخي لاسيما ان طرد آخر الموريسكيين من إسبانيا جاء قبل فترة قصيرة من وفاته لتترك تلك الثقافة في نفسه بصمة عميقة ترجمها إلى سطور ومواقف ما زالت تلهم الدارسين والباحثين.
وانعكست ظروف نشأة ثربانتس وظروف تنقله في فترة لاحقة في أعماله الأدبية فهو وإن كان تشرب أيضا بالثقافتين الإيطالية والبرتغالية فقد كانت الثقافة الإسلامية الأكثر أهمية بعد الاسبانية سيما بعد سجنه الطويل في الجزائر.
وغادر ثربانتس إسبانيا وهو بعمر 20 عاما هربا من مشاكل مع العدالة فاستقر في إيطاليا حيث تجند فيها وشارك ببسالة في معركة (ليبانت) البحرية في صفوف اسطول الارمادا المسيحية في عام 1571 حيث أصيب خلالها في يده اليسرى ما تسبب في فقد الحركة فيها.
وبعدها بأربعة أعوام قرر ثربانتس العودة إلى إسبانيا مع أخيه رودريغيو إلا ان قراصنة اعترضوا مسيرة عودتهما فاقتيدا إلى الجزائر حيث تم بيعهما كعبيد للسلطان وسجن الشاعر وأخوه بعدما ظن خاطفوه انه شخص مهم بفضل خطابات التوصية التي حملها فطلبوا فدية باهظة من عائلته.
ورغم أربع محاولات فرار فاشلة قضى ثربانتس خمس سنوات في سجون الجزائر إلى ان تمكنت عائلته الفقيرة بمساعدة عدة جهات من دفع فديته وتحريره بعد أن كان تم تحرير شقيقه سابقا فعاد إلى مسقط رأسه بعد غياب 11 عاما ليجد عائلته في حالة بؤس اقتصادي شديد فاضطر الى العمل في عدة وظائف لسداد ديونه انتهت به في السجن لعدة أشهر.
ويشير الباحثون إلى ان الفترة التي قضاها ثربانتس في سجون الجزائر التي كانت أنذاك في قمة الازدهار هي مرحلة مفصلية في تشكيل فكر الكاتب معتبرين انه لا بد من التمييز بين أعماله الأدبية ما قبل السجن وانتاجاته بعد تشربه بالمبادئ والقيم والإسلامية.
فقد كانت الفترة التي أسر فيها ثربانتس اللحظة التاريخية المسؤولة عن ولادة روايته (دون كيخوتي) رغم انه كان نشر قبلها بعشرين عاما رواية رعوية بعنوان (لا جالايتا) أي في عام 1585.
ونشر الجزء الأول من رواية بعنوان (العبقري النبيل دون كيخوتي دي لا مانتشا) في عام 1605 والذي لاقى رواجا كبيرا ونجاحا فوريا ما أتاح أمامه فرصة العودة للعمل الادبي ونشر اعمال جديدة متنوعة.
وأرسل ثربانتس الجزء الثاني من الرواية (العبقري الفارس دون كيخوتي دي لا مانتشا) للطباعة في 1615 قبل أشهر قليلة فقط من وفاته جراء إصابته بمرض مميت في 22 ابريل 1616 ليوارى الثرى في اليوم التالي وتنشر الرواية لاحقا.
وإن كان ثربانتس رمزا للغة الاسبانية بكل ثراها فقد كان كذلك رمزا للتسامح الإنساني ومبدع أعمال خالدة شاهدة على جمالية التلاقح الثقافي والادبي بين اللغتين العربية والاسبانية وعلى أزلية القضايا العربية والإسلامية الكامنة في الأدب الاسباني عبر القرون.
ويرى الباحثون أن أعمال ثربانتس اللاحقة لم تخل يوما من ذكر للشؤون الإسلامية أو العربية سواء من أسماء أو مواقع أو قضايا أو أمور لغوية ومنها نتاجه الإبداعي الذي كتبه بعد الاسر مباشرة مثل مسرحيتي (معاملات الجزائر) و(حمامات الجزائر) وروايته (السلطانة الكبيرة).
وفي رواية (دون كيخوتي) اشارات غنية مضمرة أحيانا كثيرة للثقافة الإسلامية واللغة العربية التي لم تأت نتيجة الصدفة بل ثمرة نبوغ فذ.
ولا يخفى على قارئ (دون كيخوتي) ان مبدعها اراد منحها بعدا عربيا انطلاقا من مبدأ الأمر من نسبة الرواية لمؤرخ عربي حكيم (سيدي حامد) الذي عده الراوي والمؤلف الرئيسي وأب الرواية.
إلى ذلك يضاف اختياره لموريكسي الذي استضافه في منزله طوال شهر ونصف الشهر لترجمة المخطوط بكل ما ينطوي عليه عمل الترجمة من تضمين أفكار شخصية وآراء ومواقف ليمنح الرواية لحنا جديدا بلغ بها مستوى من التعقيد تمتزج فيها الحقيقة بالخيال وتدفع القارئ أحيانا للتساؤل عن هوية الراوي الحقيقي في عبقرية مذهلة.
تلك بعض الأمور التي لا يمكن نسبتها لمحض الصدفة أو مجرد اختيارات عشوائية وفق ما يؤكد الباحث خوان غويتيسولو الذي اعتبر ان اختيار ثربانتس لكاتب ومترجم عربيين ليس عبثا أو مجرد نزوة جاءت ضمن إطار التيارات الأدبية في ذلك العصر إنما هي تجسيد للخلفية الإسلامية لثربانتس وتطور شخصيته.
ومما لا شك فيه ان أعمال ثربانتس تتضمن عناصر تكشف تعاطفه مع المسلمين وهو الواقف على الشعرة الفاصلة بين الثقافتين فاستقى من العربية جمالها الشعري وتقنيات السير والملاحم الفروسية والاجناس الأدبية المتنوعة واستلهم من الاعمال الأدبية بالعربية بعض حكاياته وأسبغ عليها من المبادئ الإسلامية السامية فحاكها نسيجا للغة الاسبانية ليقف على تشكيلات لغوية مذهلة بجمالية فائقة. (النهاية) ه ن د / م م ج (حرره محمد الجعبيري)